الاثنين، 1 أغسطس 2011

غريبان يلتقيا تحت شروط من الحميمية المُطلقة


تلك الحاجة للصنع، للخلق، للأختراع هي، بالتأكيد، حافز إنساني أساسي. لكن إلي أي حد؟ في أي غرض يستطيع الفن، بالتحديد الفن الروائي، أن يخدم ما نسميه العالم الواقعي؟ لا أستطيع التفكير في غرض واحد - علي الأقل ليس بشكل عملي. فكتاب لم يضع أبداً طعاماً في بطن طفل جائع. لم يمنع رصاصة من اختراق جسد ضحية. لم يمنع قنبلة من السقوط علي مدنيين أبرياء في وسط حرب.  
يحب البعض أن يعتقد أن إظهار التقدير للفن يجعل منا أشخاصاً أفضل - أكثر احتراماً، أكثر حساسية، أكثر تفهماً. ربما كان هذا صحيحاً- في حالات نادرة قليلة. لكن دعونا لا ننسي أن هتلر بدأ حياته كفنان. الطغاة و الدكتاتوريون يقرأون الروايات. القتلة في السجون يقرأون الروايات. و من يمكنه القول أنهم لا يتوصلون بذات المتع من الكتب التي يتوصل بها الجميع؟
بعبارة أخري، الفن عديم الجدوي، علي الأقل بالمقارنة، لنقول، مع عمل سباك، أو طبيب، أو مهندس طرق. لكن هل عدم الجدوي شئ سيئ؟ هل نقص النتيجة المباشرة تعني أن الكتب و اللوحات الفنية ببساطة هي مجرد مضيعة للوقت؟ الكثير من الناس يعتقد ذلك. و لكن أود أن أقول أن عدم جدوي الفن بالتحديد هي التي تمنحه قيمته و أن صنع الفن هو ما يميزنا عن باقي المخلوقات التي تسكن هذا الكوكب، هذا بالتحديد هو ما يميزنا كبشر.
أن تفعل شيئاً من أجل صفاء متعة و جمال فعله. فكر في المجهود المبذول، الساعات الطويلة من التدريب و الألتزام المطلوبة لتصبح عازفاً أو راقصاً ماهراً. المعاناة و العمل المتعب، التضحيات المبذولة في سبيل تحقيق شئ ما هو تماماً...عديم الجدوي.
الفن الروائي، مع ذلك، يوجد في عالم مختلف بشكل ما عن الفنون الأخري. الوسيط هي اللغة، و اللغة هي شئ نتشاركه مع الآخرين. من اللحظة التي نتعلم فيها الحديث، نبدأ في الشعور بالجوع للقصص. هؤلاء منا من يستطيعون تذكر طفولتنا سوف يستدعون كيف كنا نغبط لحظات الأستماع لقصة الفراش قبل النوم، حيث تجلس أمنا أو أبونا بجوارنا في الظلام النسبي ليقرأ من كتاب الحكايات. (...)
نكبر، و لكننا لا نتغير. نصبح أكثر تعقيداً، و لكن في أعماقنا نستمر في مشابهة نفسنا و نحن صغاراً، متشوقين للسماع للقصة التالية و التالية. لسنوات، في كل بلد من العالم الغربي، نشر المقال تلو المقال يرثي حقيقة أن عدد الناس الذي يقرأون الكتب يستمر في التناقص، أننا قد دخلنا ما سماه البعض بـ"عصر ما بعد الأدب". قد يكون ذلك صحيحاً، و لكن في نفس الوقت، هذا لم ينتقص من الرغبة و الأحتياج العالمي للقصص.
ليست الروايات هي المصدر الوحيد في النهاية. الأفلام و التليفزيون و حتي كتب الكوميكس تنتج كماً كبيراً و متنوعاً من الحكايات الروائية و يستمر الجمهور في تناولها بشغف عظيم. هذا لأن البشرية تحتاج إلي القصص. تحتاجها تقريباً بنفس الطريقة التي تحتاج بها إلي الطعام. هذا و بالرغم من أن القصص تيدو أحياناً مُقدمة - سواء مطبوعة علي ورق أو علي شاشة التليفزيون - إلا أنه من المستحيل تخيل الحياة بدونها.
و لا أزال، حين نأتي إلي حاضر الرواية، و لمستقبلها، أشعر بالتفاؤل. الأرقام لا تعني بأهمية الكتب، فهناك دائماً قارئ واحد، لكل مرة و في كل مرة هناك دائماً قارئ واحد. و هو ما يشرح قوة الرواية و لماذا، في رأيي، لن تندثر كشكل. 
كل رواية هي تعاون متساوي مشترك بين الكاتب و القارئ و هي المكان الوحيد في العالم الذي يمكن لغريبين فيه أن يلتقيا تحت شروط من الحميمية المُطلقة.
لقد أمضيت حياتي في محادثات مع أناس لم أراهم قط، مع أناس لن أعرفهم أبداً و اتمني أن أستمر حتي اليوم الذي أتوقف فيه عن التنفس.
إنها الوظيفة الوحيدة التي أردتها.
بول أوستر
مجتزء من نص الخطاب الذي ألقاه بول أوستر عند تسلمه جائزة Prince of Asturias، الجائزة الأرفع في الأدب في أسبانيا، عام 2006.

ترجمة : أحمد مجدي.
للنص الأصلي اضغط هنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق