"موسم المصائر المُحْكَمَة"
في البرد و الظلام يقف شريف في زيه القتالي الكامل و سلاحه البارد في نوبته الليلية لحراسة مخزن السلاح الصغير التابع لوحدته. يمد بصره بقلق متجاوزاً الأسوار و حواف الأشجار إلي الملعب المظلم القريب الذي لا أمل في إضاءته اليوم فيما يبدو للأسف. كل يوم من أيام الخدمة الليلية يتسلي بمتابعة التدريب في هذا الملعب، و يختار النوبة الأولي بالذات للحاق بالموعد. لكن اليوم الملعب مظلم و صامت كمقبرة، ولا أثر للاعبين الشبان، أو للأصوات المألوفة التي يحبها، صوت ضرب الكرة الساحق، صوت أزيز الأحذية الرياضية علي الأرضية، و صوت الصفارة.
اليوم لن تكون له تسلية سوي باجترار الذكريات القديمة، و الصراع مع خلايا الذاكرة و اتهامات الضمير.
لكن الصوت دوي: "حرس سلااااااح!"
*
دخل إلي معمل العلوم رجل رياضي شاب يرتدي قبعة، مقاطعاً الحصة التي أوشكت علي الانتهاء. ولمّا كان الأستاذ قد انتهي من الشرح بالفعل، طلب من التلاميذ الذكور الوقوف. اختار الرجل الرياضي ستة أو سبعة تلاميذ من بينهم شريف و مؤمن و طلب منهم الحضور يوم الجمعة بعد الصلاة أمام بوابة نادي الترسانة، ثم صافح الأستاذ و تكلما معاً قليلاً ثم غادر. أراد والد شريف أن يفهم تفاصيل الموضوع قبل أن يقود سيارته إلي بوابة نادي الترسانة ظهيرة الجمعة، فأخبره ابنه الصغير باسماً أن الرجل عاد إلي الفصل بعد أقل من دقيقة واحدة و أعتذر لأنه نسي تقديم نفسه لهذا الفصل بعدما مر علي فصول المدرسة كلها، و قال أن علينا أن نسأل علي البوابة علي الكابتن شوقي "مدرب الفوت بول".
سأل والد شريف علي البوابة فعلم أنهم مضطرون للانتظار قليلاً لحين صدور التصاريح التي تأخرت، فأبتاع شطيرتي شاورمة لشريف و مؤمن الجالسين في كنبة السيارة يحلمان بالبطولة. قال مؤمن أنه يريد أن يلعب في وسط الملعب مثل هاني رمزي، و لكن شريف أعلن أن عبد الستار صبري هو لاعبه المفضل، وانه يحب أن يلعب "ونج شمال" مثله في المنتخب المصري. قضما الشاورمة بسرور، ثم أضاف شريف انه يريد أن يحرس المرمي أيضاً مثل نادر السيد. عبد الستار و نادر هما لاعبيه المفضلين.
في هذه الأثناء كان والد شريف قد عاد من البوابة مرة أخري، و قال انه تكلم مع أحد موظفي الأمن وفهم منه أن الكابتن شوقي هو مدرب الكرة الطائرة بالنادي، وليس كرة القدم. صاح الطفلين في وقت واحد ولكننا سمعنا الكابتن شوقي يقول انه مدرب الفوت بول؟! فقال الوالد أنهما ربما قد أخطآ السمع، و الرجل قصد "الفولي بول" و ليس "الفوت بول".
لم يكن الطفلين قادرين علي فهم ما يعنيه هذا التغيير في الخطة، و لكن الوالد قال مرة أخري أن الرجل تكلم معه و أكد له أن الكرة الطائرة أكثر أماناً للاعبين من الإصابات بعكس كرة القدم. مرة أخري أعلن الطفلين في وقت واحد ولكننا نريد أن نلعب كرة القدم!!
لم يكن أمام الأب ما يقدمه للصغيرين مجدداً سوي هزة كتف و شراء علبتي عصير، حتي جاءت التصاريح.
كان ملعب الكرة الطائرة مقابلاً لمدخل جانبي للنادي، بعيداً عن المدخل الرئيسي الذي جاءوا منه، و مجاوراً لملعب آخر مساو له في الحجم هو ملعب كرة السلة. هناك جلس الصغار علي المدرجات الحجرية يشاهدون مبهورين مباراة حامية بين فريقين من الشباب الأكبر سناً، يلعب الكابتن شوقي مع أحدهما وقد خلع فانلته، بينما يلعب رجل آخر يشبهه مع الفريق الآخر. كانت هذه هي أول مباراة كرة طائرة حقيقية يشاهدونها.
بعد المباراة جاء الكابتن شوقي و قال لهم: "أهلاً بكم في فريق الكرة الطائرة بنادي الترسانة." و منذ ذلك اليوم الأول بدأت عملية التصفية. كانوا تقريباً خمسة وعشرين صبياً في الثانية عشر، انتهوا بعد أسبوعين إلي ثلاثة عشر لاعباً بفريق الطائرة تحت سن 14 سنة بالنادي، مُرتبين أبجدياً في كشف صنعه الكابتن شوقي بالكمبيوتر.
كانوا يبدءون التدريب دائماً بمباراة كرة قدم للتسخين. وهكذا حصل الصغار علي متعتهم الصغيرة ولعبوا كرة القدم في النهاية، إلا أن شريف أكتشف بضيق انه لا يلعب جيداً حينما قال له والده ذات مرة بعد التدريب: "مباراة كرة القدم كانت سيئة! كلكم تجرون خلف الكرة." وحينما تذكر أنه كان لا يلمس الكرة بالقدر الكافي، بعكس مؤمن مثلاً الذي سجل هدفاً من تصويبة رائعة من منتصف الملعب، و هتف له الكابتن شوقي مهنئاً: "مؤمن يا دَولي!"
بدأت تدريبات الكرة الطائرة الجديّة بعد حوالي أربعة أسابيع من التأهيل البدني. كانوا قد حفظوا الطريق من و إلي النادي الآن. يستخدمون ذلك المدخل الجانبي المقابل للملعب، و يحضرون بالزي الرياضي الشورت و الفانلة و يمشون به في الشارع عائدين ليشاهدهم الناس. ولمّا كان شريف و مؤمن جيران و أصدقاء، فكانا يتقابلان أيام التدريب و يذهبان سوياً، و يعودا من النادي سوياً. و ذات مرة وهما عائدان خرج صاحب سوبر ماركت من محله ورآهما يمضيان بتمهل في الطريق فقال بصوت عالي عجيب: "يا كباتن!"
و أحياناً تحضر والدة شريف أو والدة مؤمن أو والديهما التدريب، علي حسب تفرغهما، و يجلسون مع أولياء الأمور في المدرجات الحجرية.
جمعهم الكابتن شوقي في منتصف الملعب، وقال: "من يستطيع أن يكون مثلثاً بكفيه الاثنين؟"
اجتهد اللاعبين في صنع الشكل المطلوب بأكفهم، و مر عليهم الكابتن شوقي قائلاً في تشجيع: "عظيم..عظيم." ثم قال أنهم اليوم بصدد تعلم شيئاً جديداً.
وقف الكابتن شوقي مواجهاً الحائط القصير الذي يحدد نهاية الملعب، وألقي الكرة في الهواء ثم صنع مثلثاً بكفيه و سدد به الكرة في الحائط، لتعود إليه فيستقبلها مرة أخري و يعيدها إلي الحائط و هكذا. كان التمرين صعباً علي الصغار في البداية، وكانت الكرة دائماً تسقط من بين أصابعهم، أو تسقط أمامهم أو خلفهم بسبب سوء تقديرهم لقوة اللعبة، إلا أنهم تمكنوا من إتقانه بعد أسابيع من تكراره يومياً. و كانوا يهرولون دائماً حينما يعلن الكابتن شوقي بدء هذا التمرين لاختيار الكرات الأفضل، و المواقع الأفضل أمام السور. يذكر شريف ضاحكاً عندما كان هو و مؤمن يقفان بجوار بعضهما و يسددان الكرة في السور، فجاء لاعب آخر و حشر نفسه في المسافة الضيقة بينهما وراح يلعب بكرته، فأرتبك مؤمن وراح يسب وهو يبتعد بكرته بصعوبه و براعة دون أن يسقطها، فناداه الكابتن شوقي و أنّبه علي سبابه أمام الفريق كله.
المشكلة التي ظهرت أن السور كان قصيراً فعلاً، و أي تسديدة أقوي من اللازم كانت تطيح بالكرة من فوق السور إلي ما خلفه. كانوا في هذه الحالة ينتظرون قليلاً فتطير الكرة عائدة إلي منتصف ملعبهم، و يجري صاحبها لإعادة التقاطها و العودة للتمرين. و لكن ذات مرة تجاوزت كرة شريف السور و لم تعد من نفسها، فتسلق المدرجات الحجرية حتي الدرجة الرابعة التي يتجاوز ارتفاعها ارتفاع السور و نظر إلي ما خلفه، و بهت لما رأي.
ملعب كرة القدم الأخضر.
كان ملعباً صغيراً، تتدرب عليه فرق تحت السن، ولكنه يراه للمرة الأولي، و نبض قلبه بقوة دافعاً الدم في عروقه الصغيرة بحرارة.
هنا رآه لاعب من ملعب كرة القدم و انتبه لكرته الساقطة عندهم، فجاء والتقطها ثم سددها بقدمه معيداً إياها إلي ملعب الطائرة. نزل الدرجات عائداً إلي الملعب، و التقط الكرة واستكمل التمرين.
تأخر إيليا برغم انه صاحب الدعوة. شعر شريف بالحرج وهو واقف مع مؤمن في الميدان ينتظرانه، تبادلا ابتسامة ذوق ثم نظرا للأرض، و لساعتيهما. سنوات تمتد بينهما. يقوم كل منهما مقام الماضي لدي الآخر، يري في عينيه الاستكانة للبراءة و النقاء، و ثقل التوقعات. تغيرت هيئتهما الآن. شريف أكتسب وزناً نال من قامته المديدة، و استدار وجهه النحيل المستطيل. مؤمن شذّب لحية متوسطة، و وضع منظاراً طبياً ضيقاً.
يرتديان قمصاناً رصينة و سترات. منذ عشر سنوات بالضبط كانا يرتديان الزي الرياضي الجديد الأنيق الذي سلمه لهم النادي، و يتحركون برشاقة حاملين حقائبهم الرياضية علي ظهورهم، بقاماتهم اليافعة الطويلة، و وجوههم البيضاء المراهقة، وشفاههم الحمراء البارزة، مثيرين اهتمام فتيات النادي بعدما لعبوا أول مباراة في دوري 16سنة علي أرضهم في الموسم وفازوا بها. كانوا في موقف حرج لأن المباراة الأولي كانت خارج أرضهم مع الزمالك، وقرر الكابتن شوقي-بالإتفاق مع نظيره- الدفع بالفريق الكبير"تحت 18سنة" في الشوط الأول لضمان النتيجة أولاً، ثم يلعبوا هم الشوطين الثاني و الثالث. بدأ التسخين، وراح فريق 18 سنة يسدد ضربات ساحقة من علي الشبكة. كان هناك جمهور كبير من عائلات لاعبي الزمالك، و الضغط كبير علي الصغار الذين يروا ملعب كبير مثل هذا لأول مرة. طلب منهم الكابتن شوقي التسخين بالإطالات علي خط الملعب، فقاموا تحت الأضواء الكاشفة يمددون سيقانهم و أذرعتهم أمام جمهور الزمالك.
بدأت المباراة، و جلس الفريق نصفه علي البنشات، و النصف الآخر علي الأرض متخذين الجلسة الرياضية. علت صيحات الجمهور و انهالت ضربات الزمالك الساحقة علي فريق 18 سنة، واتخذ خالد ليبرو الدفاع الأسمر ذو الشعر الأكرت وضعاً شبه ثابت علي الخط النهائي للملعب مستقبلاً الضربات القوية، وحانياً رأسه تاركاً الكرة للمرور خارج الخط عندما يشعر أنها قوية أكثر من اللازم. و لكنه أخطأ مرتين تاركاً الكرة تمر ليتضح أنها داخل الملعب، و يحتسبها الحكم للزمالك.
انتهي الشوط 25/22 لصالح الزمالك، وكانت صدمة للصغار لم يفهموها. كانت الخطة أن يحصل لنا فريق 18 سنة علي الشوط الأول لنضمن النتيجة، فماذا حدث؟ غادر أفراد الفريق الملعب محبطين، ونهض شريف من جلسته وقال عندما اقترب خالد منه: "حرام."
لكن الكابتن شوقي لم يغير من خطته الأولي، و لعب فريق 16 سنة الشوطين الثاني و الثالث، برغم خسارة الشوط الأول. ووجد شريف نفسه لأول مرة علي الإرسال وسط صيحات الأستهجان من الجمهور. أرتعشت ساقيه ووجد نفسه يرفع الكرة، ثم يسددها بكفه إلي خارج الملعب!
صفق له الكابتن شوقي من خارج الملعب و طالبه بالتركيز.
كانت ليلة كابوسية.
فاز فريق 16 للزمالك بالشوطين التاليين بفارق عشرة نقاط في كل شوط.
و بينما يغادر اللاعبين و يحزمون حاجيتهم في إحباط شديد، كان الكابتن شوقي هو الوحيد غير المتأثر بالنتيجة و كأنه توقعها منذ البداية. وراح يشجع اللاعبين و يدعوهم لتقبل الخسارة بروح رياضية كالأبطال.
في تلك الليلة عاد الفريق إلي النادي ليجدوا المطعم في استقبالهم، فساروا في أروقة النادي مندهشين، هل يدعونهم إلي العشاء و هم خاسرون؟!
بالفعل، حدث هذا.. خسر الفريق المباراة الأولي في الموسم، و لكن المطعم كان يجهز لهم وجبة العشاء كمكافأة قبل معرفة نتيجة المباراة. كان الليل قد حل، و الدخان يتصاعد من مدخنة المطعم، وقف اللاعبين في الساحة الأمامية يضحكون و يداعبون بعضهم بعدما استرخوا وتخلصوا من ثقل الخسارة، بينما وقف الكابتن شوقي و مساعده داخل المطعم يدخنان سيجارة، وكانت المرة الأولي التي يراه فيها الصغار يدخن.
بعد قليل قام عمال المطعم بإدخال الفريق، و تولوا إجلاسهم في المقاعد حول المناضد، و بدأ صف أطباق الطعام أمامهم. طلب شريف رغيفاً من الخبز حتي يستطيع أكل الطحينة، ولما سُأل الجالسون معه حول المنضدة عن عدد الذين يريدون خبزاً قال خالد أنه لا يريد.
غاب الجرسون، و عاد و معه عدد من شرائح الخبز المثلثة الساخنة، وضعها علي المنضدة لتتخطفها الأيدي، ومد خالد إصبعه قائلاً: "هات واحد بس"
نفد الخبز، و لم ينل شريف واحداً. منذ ذلك اليوم تحولت مشاعره تجاه خالد ليبرو الفريق من الإعجاب إلي الكُره. لم يحترم كلمته، قال أنه لا يريد خبزاً، و أخذ الشريحة الخاصة بشريف في النهاية.
ظهر إيليا أخيراً من آخر الشارع لينقذ الموقف المتجمد. كان رشيقاً شاباً كأنه مازال يتدرب. صافح شريف و عانقه بحرارة مداعباً إياه حول الوزن الزائد، ثم عانق مؤمن و داعبه هو الآخر حول الذقن الجديدة، و ما تعنيه من اهتداء ديني أخير في حياة الشاب الشهير باللهو و العبث. ابتسم مؤمن مجاملاً في تحفظ، بينما كانت ابتسامة شريف واسعة و صادقة.
دعاهم إيليا للمشي إلي حيث المطعم الذي حجز لهم فيه. صعد الثلاثة علي الرصيف و ساروا متجاورين، و لكن لم تلبث ظروف المشي علي الرصيف في قلب القاهرة أن أجبرتهم علي التفرق قليلاً.. سبقهم مؤمن قليلاً في الأمام، و خلفه بعدة خطوات إيليا بقامته القصيرة نسبياً، و بجواره إلي الخلف مباشرة شريف.
حمل شريف الصغير شكوي غاضبة مباشرة إلي والدة إيليا الجالسة في مدرجات ملعب الترسانة في فترة الراحة من التدريب: "إيليا يضايقني في الملعب يا طانط!"
و علي الفور هوت يد الأم في صفعة قوية علي وجه إيليا الصغير.
أحس شريف ان العقاب كان أكبر من الإثم، و شعر بالندم. لم يفعل إيليا سوي تتبعه في التمرين و التحرش به كلامياً حول شكل ساقيه في الشورت الرياضي الشبيهه بساقيّ الفراخ. و بالرغم من انه كرهه ساعتها جداً إلا انه أحبه كثيراً في أوقات أخري.
بدأت علاقة شريف و إيليا منذ زمالتهما في الفريق، و صداقتهما في المدرسة برغم أنهما كانا في فصلين مختلفين. و بدأ انبهار شريف بشخصية إيليا منذ الأيام الأولي التي كان إيليا يزوره فيها في المنزل، و يجلسا للعب و التسكع معاً بالساعات. كان إيليا يحكي له عن مغامرات و نزهات كثيرة و عجيبة يقوم بها مع أفراد عائلته، و كان شريف لا يصدق معظمها، و لكنه كان يشعر بالاستسلام لسطوة حكي إيليا المثيرة، فقد كان يحكي القصص و يصف المواقف بطريقة سحرية رائعة كانت تُسكر شريف، و تجبره علي تصديقها برغم غرابة هذه المواقف أحياناً.
كان إيليا، في مخيلة شريف، هو نموذج البطل في مغامرات تان تان و مجلدات ميكي التي كان يقرأها في ذلك السن. المغامر الذي يخوض خبرات عديدة، و يخرج كل يوم، و يجرب كل شئ، و يتعرض للمخاطر و الأزمات.
و ذات يوم عاد شريف من المدرسة و معه إيليا الذي وافق علي المجئ معه للعب، و كان شريف يسأله عما يفعله يومياً فور عودته من المدرسة، فكان إيليا يحكي و يصف مراحل يومه بالتوقيتات الزمنية الدقيقة. استمع له شريف مشدوهاً، ثم أستأذن لأنه يريد الذهاب للحمام و ذهب، و بينما يغسل يديه أمام الحوض، كان يغمغم لنفسه: "شخصية رائعة!"
*
عرض إيليا علي صديقيه سيجاراً فرفض مؤمن و أخذ شريف واحداً. كانوا يجلسون باسترخاء ساعدهم عليه ديكور و جو المطعم الإيطالي شبه الخالي، و قد تخلصوا من توتر المقابلة الأول و بدأوا يتكلمون بأريحية.
إيليا: "كيف حالكم يا رفاق الأيام الخوالي؟!"
ابتسم شريف.
مؤمن: "تغيرنا."
شريف: "تغير الزمن."
إيليا: "الزمن يتقدم لا يتغير."
شريف: "إذن تقدم الزمن و تغيرنا."
نفث إيليا دخان سيجاره كثيفاً، ثم رفع سبابته و نقلها بينهما عدة مرات: "لماذا تغيرتما؟!"
شريف: "أنت لم تتغير؟!"
مؤمن: "أكيد تغيرت."
إيليا: "طبعاً تغيرت."
مؤمن: "لماذا؟!"
إيليا: "لأنها سنة الحياة. دواعي النضج."
مؤمن: "ها قد قلتها."
إيليا: "لماذا تربي ذقنك؟!"
مؤمن: "سنة عن سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم."
ساد الصمت.
شريف: "قرأت روايتك الجديدة."
إيليا: "حقاً؟!"
شريف: "نعم."
إيليا: "كنت أنوي جلب عدة نسخ لكما. نسيت للأسف."
شريف: "قرأتها."
إيليا: "وما رأيك؟!"
شريف: "أحببتها."
إيليا: "فعلاً؟!"
شريف: "جداً."
مؤمن: "عن ماذا تحكي؟!"
شريف: "علاقة عابرة بين كاتب شاب مشهور علي مستوي ثقافي معين، و بين مصورة فوتوغرافية شابة شديدة الجنون و الموهبة. تتقاطع علاقتهما مع المدينة، و مع الأحداث السياسية الصاخبة، مع كل جروحهما و بثورهما الخاصة القديمة، وتنتهي بالفراق و الرحيل."
مؤمن: "آه..إنها تلك الرواية التي كتبت عنها الصحف، كنت أظنها واحدة جديدة."
شريف: "هي نفسها."
إيليا: "و ما رأيك؟!"
مؤمن: "أنت الكاتب."
إيليا: "و أنت القارئ، و الصديق. ما رأيك؟!"
مؤمن: "لم أقرأها."
إيليا: "لا أقصد رأيك في الرواية، أقصد رأيك فيما كتبته الصحف."
مؤمن: "الصحف تحب الفرقعة."
إيليا: "وماذا عن الشيخ الذي أهدر دمي؟!"
مؤمن: "هذا رجل معروف بالتطرف، و عليه رد."
إيليا: "كثيرون ساندوه."
مؤمن: "وكثيرون لن يستمعوا له."
صمت.
مؤمن: "لماذا تكتب رواية فيها ما يستفز الناس؟!"
إيليا: "حسب مفهومك عن الأستفزاز."
مؤمن: "يعني.. الشاب ملحد، و الفتاة شاذة. لماذا تكتب عن هذه الأشياء؟!"
إيليا: "عن ماذا تريدني أن أكتب؟!"
مؤمن: "أريدك أن تكتب ما تريد أنت أن تكتبه، و لكن لا تضايق الناس."
إيليا: "كيف أكتب عن ما أريد أن أكتب عنه، و كيف أكتب كيلا أضايق الناس؟!"
مؤمن: "تجد وسيلة."
إيليا: "و إذا فشلت."
مؤمن: "لا تنشر. اكتب، و لكن لا تنشر إلا ما يصلح للنشر."
إيليا: "الناشر هو الذي ينشر."
صمت.
إيليا: "هل يضايقك أن يهدر شيخ دم صديقك؟!"
مؤمن: "طبعاً."
إيليا: "أنا سعيد."
مؤمن: "ولكن الرواية فيها ما يُشين."
إيليا: "تاني؟"
مؤمن: "نعم."
إيليا: "إذن تراني المخطئ؟!"
صمت.
شريف: "كيف حالك مع زوجتك؟!"
مؤمن: "القضية مستمرة."
شريف: "لا توجد أخبار جديدة؟!"
هز مؤمن رأسه نفياً.
تمتم شريف و إيليا بتمنيات مبهمة.
التفت إيليا إلي شريف: "كيف حال العمل؟!"
شريف: "الحمد لله."
إيليا باسماً: "سعيد بساعات الدوام؟!"
شريف: "قطعاً لا."
مؤمن: "وأنت.. ألا تفكر أبداً في الألتحاق بوظيفة؟!"
إيليا: "لا يمكنني أبداً الانتظام في وظيفة!"
مؤمن: "لماذا؟!"
إيليا: "الأسباب ستفسد بريق جملتي."
ضحك شريف.
إيليا: "ألا تفكر في العودة للجامعة؟!"
شريف: "بصراحة فكرت."
إيليا: "في...؟"
شريف: "في التاريخ.. أفكر في الحصول علي شهادة في التاريخ المقارن."
مؤمن: "لماذا بالتحديد؟!"
شريف: "لديّ شغف بمهنة المحقق التاريخي."
مؤمن: "الـ ماذا؟!"
شريف: "المحقق..."
مؤمن: "من الطب للآداب.. بصراحة أشعر بالإشفاق عليك يا شريف."
إيليا: "هل أنت سعيد في مهنتك يا مؤمن؟!"
مؤمن: "الحمد لله."
إيليا: "ولكنك لا تعمل في مجال دراستك."
مؤمن: "نعم. و لكني سعيد، مهنة شريفة، و أجري طيب، و أكفّي احتياجات أسرتي."
إيليا: "هل تقصد ذلك الترتيب أم أنه عفوي؟!"
مؤمن: "ماذا تقصد؟!"
إيليا: "لماذا لم تضع شغفك أو طموحك الشخصي ضمن أسباب الإرتضاء؟!"
مؤمن: "أنا سعيد بما وصلت إليه و الحمد لله."
إيليا: "وأنا سعيد من أجلك يا مؤمن.. و لكن ألا تظن أن شريف من حقه أن يفعل مثلك؟!"
مؤمن: "لا أفهم."
إيليا: "ألا تظن انه يحق له ان يعود ليدرس ما يحب، و يكون ما يريد."
مؤمن: "قطعاً.. من حقه أن يفعل ذلك، و لكنه كان علي الطريق الصحيح بالفعل، ثم تراجع بدون سبب."
شريف: "احم.. أنا جالس هاهنا!"
إيليا: "ماهو مفهومك للطريق الصحيح بالضبط؟!"
مؤمن: "لا تخدعني يا إيليا بالكلمات."
إيليا: "صدقني.. لست أفعل."
مؤمن: "هل يوجد أفضل من كلية الطب في مصر؟!"
إيليا : "عَرّف كلمة (أفضل)."
شريف: "يا رفاق.. من فضلكم."
نفث إيليا الدخان و أشاح بوجهه، و ساد الصمت.
شريف: "أريد أن أستنشق بعض الهواء."
بدأ كرهاً ينمو في قلب شريف تجاه مؤمن عندما دخلا مرحلة المراهقة. كُرهاً طفولياً يليق بالمضايقة التي كان يلقاها منه بسبب غرور مؤمن المتنامي، و اضطراب الهرمونات الطبيعية بداخله، و سعيه الساذج للجنون و الفلتان و التقليد. قبل اليوم الدراسي في الصباح الباكر كان مؤمن يذهب مع أصدقاءه للوقوف علي الناصية و معاكسة فتيات المدارس القريبة اللاتي يسرن في مجموعات. كان شريف ينزل من البيت في ميعاد المدرسة بالضبط، فعندما يصل إلي الفصل يكون مؤمن عائد من مغامرة صباحية يضحك مع أصدقاءه بنزق و يتكلمون حول إشارات هذه الفتاة أو تلك، و يسخر مؤمن من شريف في السياق، أو يلقي بكلمة لا معني لها تضايقه بدون بسبب.
و يتكرر الأمر بعد اليوم الدراسي، فيعود مؤمن و أصدقاءه لمقابلة نفس الفتيات في رحلة العودة علي نفس الناصية. حتي أيام الامتحانات، كان شريف يقضي ساعات الصباح الأولي في مراجعة الأسئلة، و عندما يذهب إلي المدرسة يكتشف أن مؤمن عائد من الناصية بعد رحلة تسكع و معاكسة جديدة. قال مؤمن في استمتاع عندما رآه: "المرء يرتكب كمية ذنوب في الصباح كفيلة برسوبه في الأمتحان!"
و بعد اللجنة كان شريف يقف مع إيليا أمام منزلهما يراجعان الأمتحان و يتكلمان، عندما يمر مؤمن و قد غيّر ملابسه و ارتدي زياً أنيقاً و صفف شعره و وضع عطراً، فيسأله إيليا عن وجهته، فيقول جذلاً وهو يشير مقارباً إصبعيه السبابتين انه ذاهب لمقابلة صديقته.
كُره شريف كان يخفي إعجاباً مُبطناً.
لن يكذب علي نفسه، لم يعرف فتيات في مراهقته، برغم انه كان يحمل قلباً رومانسياً و تعلقاً كبيراً بالأفلام و الأغاني و القصص. كان مؤمن بارعاً دائماً فيما يفشل فيه. أكثر جرأة و أكثر خبرة، و يعرف دائماً أكثر. قال له مؤمن مرة: "أنت واقع من أحداث قصة يا شريف."
لكن مؤمن لم يكن دائماً شريراً مع شريف. و هذا ما كان يبقي علي علاقتهما كصديقين، فمن ناحية كان شريف أضعف نفسياً من أن يهجر مؤمن، و من ناحية أخري كان مؤمن بحاجه إليه كصديق مخلص و مفيد.
تقابلا في صباح شتوي عند بائع اللبن بالصدفة، يشتريا جبن و بيض الصباح. كان مؤمن يطيل شعره، و كان شعر شريف خشناً لا يُطال إلا و صار قذراً غير مهذب. وقفا ينتظران البائع حتي يجهز طلباتهما، فإذا بصوت نباح شديد و كلاب مجنونة تركض مهرولة من آخر الشارع، و تلاميذ المدارس الابتدائية المذعورين يجرون أمامها و يلتصقون بالجدران و يختبئون في أبواب المنازل.
تجمدت دماء شريف و التصق بفاترينة المحل، و لكن مؤمن أطلق سبة قبيحة و انتظر حتي اقتربت الكلاب فسدد ركلة قوية إلي عنق أحد الكلاب أطاحت به عن مساره، و كذا فعل عمال محل اللبن الذي حمل كل منهم عصا و ضرب بها كلبا، لتفر الكلاب كلها دون ان تنظر من أين تأتيها الضربات.
كان شريف يشعر دائماً أن مؤمن شخصاً يصلح للعالم أكثر منه.
خرج الأصدقاء الثلاثة من المطعم الإيطالي صامتين، ينظر كل منهم في اتجاه. وقفوا قليلاً تحت الشمس، ثم أشار شريف إلي الشمال و قال رافعاً كفه لصد الشمس: "نتمشي من هنا."
سارا خلفه صامتين. و مرة أخري فرضت ظروف المشي علي الرصيف في وسط القاهرة وضعاً معيناً لسيرهم، فكانوا يسيرون هذه المرة في قطار، إيليا في المقدمة، و بعده بخطوات مؤمن، ثم شريف علي بعد مماثل.
و في هذه المرة لم يستطع شريف منع نفسه من التفكير في كيفية تصرفهم لو تعرض الثلاثة لهجوم الآن.
ماذا يمكنهم أن يفعلوا؟!
بدأ هتاف "يلا يا شريف" يشتهر بعد المباراة الرابعة أو الخامسة في الموسم. كانوا يلعبون ضد فريق نادي الشمس خارج أرضهم، و كان فريق 16 سنة قد وصل إلي مستوي طيب بلغ ذروته في هذه المباراة. كان شريف يلعب في الدفاع في المعتاد، بينما يلعب مؤمن علي الشبكة في مركز 4. لكن الكابتن شوقي في هذه المباراة أراد أن يجرب شريف علي الشبكة، فنقله إلي الأمام و أعاد مؤمن إلي الخلف. في البداية تذمر مؤمن، و لكنه سرعان ما أمتثل لأمر الكابتن شوقي.
بدأت المباراة الصباحية تحت أشعة الشمس الخفيفة في حضور جماهيري قليل، وكانت عدة مباريات أخري تُلعب علي ملاعب أخري مجاورة، و كان شريف قلقاً من مركزه الجديد، و لكنه فوجئ و سعد بشده مما حدث. لم يكن يعرف أن هذا اليوم سيكون يوم حظه. كان إيليا يلعب في مركز صانع الألعاب "البصّير" و في أول لعبة لفريق الترسانة، رفع الكرة إلي مركز 4 هاتفاً: "يلا يا شريف!"
و طار شريف في الهواء ضارباً الكرة ضربة ساحقة اخترقت حائط صد الشمس و عبرت إلي ملعبهم بسرعة فائقة بين لاعبي الدفاع، لتحتسب النقطة الأولي! لم يصدق شريف نفسه مستوي القفزة التي أدّاها، و صفق الكابتن شوقي من الخارج، و هتف الاحتياطيون: "شريف يا دَولي."
و علي الرغم من مخالفة هتاف "يلا يا شريف" الذي أبتكره إيليا لقواعد التدريب، حيث أنه يكشف نية صانع اللعب التي من المفترض أن تكون مفاجئة، إلا أن الكابتن شوقي لم يعترض في هذه المباراة، و تركهما يؤديان عزفاً منفرداً.
و المثير أن مؤمن تألق أيضاً في هذه المباراة بشدة في الدفاع، فكان يستقبل إرسالات ساحقة بصعوبة، و يرد تصويبات صعبة من الوضع طائراً، و يتابع كرات ميتة في أخر الملعب و حتي حافة المدرجات ليردها مرة أخري إلي الملعب، و صفق الأحتياطون هاتفين له أكثر من مرة.
أحرز الفريق في هذه المباراة ثلاثة أشواط نظيفة بفارق عشرة نقاط في كل شوط، و كانت اللعبة المعتادة هي أن يستقبل مؤمن الإرسال موجهاً الكرة في إتجاه إيليا الذي يتحرك إلي الداخل، و يرفع الكرة في الهواء إلي شريف هاتفاً: "يلا يا شريف" ليطير شريف في الهواء مأرجحاً جسده و مسدداً ضربة ساحقة جديدة تمر من حائط الصد و تسقط سريعة بين أقدام لاعبي الدفاع.
احتفل الفريق احتفالاً عظيماً بعد هذه المباراة، و حُمل شريف علي الأعناق. ثم حمله مؤمن نفسه عندما عادوا إلي ملعبهم.
في المباريات التالية بدأ أداء شريف في مركز الضارب يتطور أكثر، و صار قادراً علي تغيير اتجاه جسده في الهواء ليراوغ الحائط تماماًُ، لتنفتح زاوية التصويب أمامه، و حافظ علي الثنائي المتناغم بينه و بين إيليا، كما حافظ إيليا علي هتافه الشهير الذي أصبح ماركة مسجلة لم تفقد فاعليتها قط، حتي عندما غاب إيليا عن مباراة اتحاد الشرطة للإصابة ولعب صانع الألعاب الأحتياطي، كان يستخدم هو أيضاً الهتاف المعروف، و كان الكابتن شوقي يقول لهم في التدريب ضاحكاً: "كل ما عليك فعله هو رفع الكرة في الهواء و أن تنادي علي شريف، ثم تترك له الباقي."
كما استمر تألق مؤمن في خط الدفاع، وقام الكابتن شوقي بتثبيته في هذا المركز.
*
المباراة المنتظرة كانت هي مباراة العودة مع الزمالك.
كان يوماً أسطورياً.
يوماً للتاريخ علي عدة مستويات.
علي صغر حجم ملعب الترسانة، إلا أنه أمتلئ عن آخرة بالجمهور و اصطفت الفتيات و الشباب علي جانبي الملعب بعد امتلاء المدرجات، و امتلأ الجو بالصفارات و الهتافات التشجيعية. و عندما نزل الفريق إلي أرض ملعبهم الترابية التي اعتادوا عليها كانوا يشعرون أنهم في حلم. و كان الكابتن شوقي ممتلئاً بالحماس، صافح مدرب الزمالك و لاعبيه، ثم عاد و صفق للاعبيه، واضعاً كفيه أمام فمه علي شكل بوق، هاتفاً بحماس تشجيعي: "يلا يلا يلا يلا!"
المباراة نفسها كانت رائعة، و قد أستمتع بها اللاعبون قبل الجمهور أيما استمتاع. بعد المباراة قال لهم الكابتن شوقي أنه رأي أمامه محترفين في أرض الملعب. استقبل مؤمن إرسالات و تصويبات لا تُرد، و طار شريف في الهواء كما لم يطر من قبل، و ضرب كما لم يضرب من قبل، و مارس إيليا خداعاً في صنع اللعب في أداء هو الأفضل له طوال الموسم.
نتيجة المباراة النهائية كانت ثلاثة أشواط لشوطين لصالح الزمالك، و لكنها كانت خسارة بطعم الفوز. و لم يفز الزمالك في شوط واحد بفارق أكبر من نقطتين بعد الوصول إلي نتيجة 24-24 في كل شوط.
سهرت عائلة شريف مع عائلتي إيليا و مؤمن في النادي حتي ساعة متأخرة للأحتفال، ثم عادوا جميعاً سيراً علي الأقدام إلي منازلهم في الشوارع نصف المظلمة.
وقف الثلاثة فوق أرضية الملعب، إيليا عند الشبكة، و شريف في نصف الملعب الأيمن، و مؤمن في نصف الملعب الإيسر.
مؤمن: "لماذا أتيت بنا هنا؟"
إيليا: "فكرت دائماً أننا سنعود."
مؤمن: "أشعر بالضياع!"
ساد الصمت، ثم ضحكوا فجأة لرنين الجملة في آذانهم.
شريف: "لماذا نادي المعادي بالذات؟!"
إيليا: "لديّ اشتراك فيه.."
مؤمن: "ليس هذا هو السبب الوحيد.."
و تابع: "فاكرين؟"
شريف: "كانت آخر مباراة في الموسم."
علم شريف و إيليا و مؤمن أنه موسمهم الأخير من نظرة أعينهم عندما تقابلوا في الصباح من أجل مباراة نادي المعادي. موسمهم الأول كان هو موسمهم الأخير. كانوا خجلين ينظرون في الأرض متهربين من نظرات بعضهم البعض، وقد خمنوا أن الحديث نفسه قد دار في منازلهم كلهم الليلة الماضية. كانت مباراة المعادي في اليوم قبل الأخير من الإجازة الصيفية، و اتخذت العائلات قراراتها الفرمانية بأنقطاع الأبناء عن اللعب من أجل التفرغ للدراسة الثانوية.
في مباراة المعادي كان اللاعبين محبطين، يعلبون بدون مزاج.. و استطاعوا برغم ذلك الفوز بأقل مجهود بثلاثة أشواط لشوط واحد.
وقفوا في طابور التمام الأخير في ملعبهم. كان مؤمن قد أصبح هو حكمدار الفريق، يقف علي جانب الصف، و يصدر الأوامر: "صفا..انتباه" ثم يعلن انصراف الفريق.
كان كل واحد يحاول إخفاء دمعته الشاردة عن الآخر.
*
إيليا: "لماذا تركنا اللعب؟"
مؤمن: "لا أعرف."
شريف: "لو كملنا، لكنا علي الأرجح الآن أبطال في المنتخب الوطني."
إيليا: "ألم يكن هذا ليكون شيئاً قيّماً؟"
*
عندما ترك شريف كلية الطب في سنته الثالثة كان يبحث عن ذاته. لم يكن الانسحاب بالقرار السهل، و لكن ما جعله سهلاً في وقتها هو دافع الأنتقام الذي شكل سبباً أساسياً من أسباب القرار.
الأمر يشبه مباراة الكرة الطائرة. بعكس اللعبات الأخري، لا يمكن قلب نتيجة مباراة الكرة الطائرة فجأة، و إنما تتطور النتيجة ببطء و تمهل، و يحصد الفريق في طريق الفوز نقطة نقطة، و لابد لكل نقطة من أن تحظي بوقتها، و مجهودها، و متعتها الخاصة.
أحمد مجدي شوقي©