وسط الفوضي الراقية التي يخلقها سرد من طبقة لم أعهدها من قبل خلال الفصول الأربعة الأولي، يأتي مشهد سكون مذهل في تكوينه مدسوس دساً وسط الأحداث، مدسوس للألتقاط، كأنه كاميرا مخرج من طراز رفيع تتحرك في المنزل بينما الشخصيات نائمة.
هذه رسالة حب إلي الجزء التاسع من الفصل الرابع من (Pnin) لفلاديمير نابوكوف. وهذه هي صورة الفن الرفيع في أفضل تجلياته، كما رأيته.
بْنين
فلاديمير نابوكوف
ترجمة محمد جليد
الفصل الرابع
9
ما يزال المطر يهطل. جميع المصابيح في منزل "شيبرد" مطفأة. تحول النهير في الأخدود خلف الحديقة، المجري الهزيل في أغلب الأوقات، في تلك الليلة إلي سيل جارف يفيض عن حوافه، امام انقياده التواق للجاذبية، حاملاً معه، عبر الممرات أسفل أشجار الزان والتنوب، الأوراق المتساقطة العام الماضي وبعض الأغصان الجرداء وكرة قدم جديدة غير مرغوبة تدحرجت إلي الماء عبر العشب المائل بعد أن قذف بها "بنين" من النافذة. غلب النعاس "بنين" في النهاية، رغم آلام ظهره.
وفي كابوس من تلك الكوابيس التي مازالت تفض مضجع الهاربين الروس، وإن انقضت ثلث قرن علي هروبهم من البلاشفة، رأي "بنين" نفسه متخفياً بشكل مدهش، وهو يتسلل من قصر وهمي، عبر بركات مداد عظيمة، علي ضوء قمر تحجبه الغيوم بين الفينة والأخري، ثم يسرع الخطي علي شاطئ موحش رفقه زوجته الراحلة "إيليا إيزيدوروفيتش بوليانسكي"، بينما يترقبان أن يصل منقذ غامض ما عبر قارب مرتحف من وراء ذلك البحر الذي لا منفذ له. كان الأخوان "شيبرد" مازالا سهرانين في فراشيهما المتجاورين علي سريريهما من نوع "بيوتيريست". كان الأخ الأصغر ينصت في الظلام إلي المطر ويتساءل إن كان يجب في النهاية أن يبيعا المنزل بسقفه المسمّع وحديقته المبللة، وكان الأكبر مستلقياً يفكر في صمت بباحة كنيسة خضراء ندية، وبضيعة قديمة، وشجرة حور كسرتها صاعقة قبل سنوات، فأردت "جون هيد"، القرب الغامض والبعيد. واستغرق "فيكتور" في النوم، حالما وضع رأسه أسفل وسادته-وهي طريقة تطورت في الآونة الأخيرة لن يعلم عنها الدكتور "ويند" (الجالس علي مقعد قرب نافورة في "كيتو" بالإكوادور) أي شئ أبداً. في الساعة الواحدة والنصف بدأ الأخوان "شيبرد" يشخران، كان الأطرش يرفق شخيره بجلجلة في نهاية كل زفير، وبأحجام عديدة أكبر من الثاني الذي كان شخيره عبارة عن أزيز طفيف وكئيب. علي الشاطئ الرملي حيث ما زال "بنين" يسرع الخطي (وصديقه المهموم عاد إلي الديار بحثاً عن خريطة) ظهرت أمامه آثار خطي قريبة منه، ثم استفاق يلهث. مازال الألم يمضّ ظهره. كانت عقارب الساعة تتجاوز الرابعة بقليل، والمطر قد توقف.
تأوه "بنين" علي الطريقة الروسية "أوخ-أوخ-أوخ"، ثم حاول إيجاد وضع مريح. نزل العجوز "بيل شيبرد" متثاقلاً إلي الحمام، أحدث جلبة في المنزل، ثم عاد إلي غرفته.
بعد ذلك، غط الجميع في النوم. للأسف، لم ير أحد منهم المشهد في الشارع الخالي، إذ كان نسيم الفجر يغضن بركة رحبة متلألئة، جاعلاً من الأسلاك الهاتفية التي كانت تنعكس علي صفحتها خطوطاً متعرجة سوداء غير مقروءة.