الجمعة، 21 أكتوبر 2011

الليلة الأخيرة لي بالمنزل، و عاجز عن النوم. 
متوتر بسبب عدم قدرتي علي النوم فغداً سيكون يوماً طويلاً، سنترحل إلي معسكرات التدريب، و نستلم متعلقاتنا العسكرية و مهماتنا. سأنام قليلاً في أوتوبيس الترحيل، و إن كنت أريد أن أبقي يقظاً لأعرف الطريق. 
كثرة الأشياء التي أريد فعلها تضاعف من توتري. 

أشعر بأحاسيس مزيفة عجيبة، جائع و لكن ليس جداً. ناعس و لكن لا أستطيع النوم. خائف و لكن مستثار. 
بسذاجة أفكر في رواية هاينريش بول التي أثرت فيّ. كعادتي أعيش وسط أبطال الروايات، و أفصل نفسي عن الواقع السهل المُعاش، و أغوص مع القالب الجاهز في أوهام لا ظل لها. بطل هايرنيش بول مجند عائد من الحرب بالقطار، لم يخلع حذائه منذ أسابيع، و يعرف بشفافية روحية موعد موته مسبقاً بعد عدة أيام. أشعر انني مثله برغم ان سلاحي سلاح إداري غير قتالي، إلا انني بسذاجتي لمجرد اني داخل الجيش أشعر انني سأكون مثله، و سأعاني معاناته. 

الحياة أحياناً تكون أسهل من المنتظر. 

تجمدت تماماً منذ يومين أو ثلاثة و لم أستطع فعل شئ سوي الأشياء الضرورية. مع اقتراب الموعد و شعوري بالخطورة فقدت نشاطي الذي اكتسبته في الشهر الأخير. يوم سماع السلاح استيقظت فجراً شاعراً بإنزعاج شديد و خوف. لم أصدق ان هذا يحدث لي، و تأخرت عمداً من أجل صنع بعض الشاي، و فتح الكمبيوتر لتهدئة أعصابي.

فائدة مهمة من وضعي الحالي: الاستمتاع بمشاعر التعاطف من الجميع. 

أحاول تجهيز نفسي لقبول فكرة تسليم نفسي تماماً و كلية للجيش، خاصة ان صديقي نصحني بعدم كتابة أي مذكرات هناك حتي لا ألفت الانتباه. سأكتفي بالقراءة، علي الأقل في مركز التدريب. 
لم أكمل رواية فيليب روث، و سأرحل تاركاً إياهاً مقلوبة علي المكتب، لم أستطع التركيز، فضلاً عن انها مرهقة و تتكلم عن الموت و المرض. بجوارها أمريكانلي المفتوحة دوماً بلا استغراب.. لن أمانع ان تغير أمي من وضعية الكتب، و لم أقل لها شيئاً معينا. إلي أي مدي يمكن تتغير الغرفة في غيابي؟ أم أتغير أنا؟

لا أدري لماذا أذكر ذلك الموقف بالتحديد.. كنت في سنة من سنوات الابتدائية، و استيقظت فجراً شاعراً بإثارة شديدة من أجل ارتداء الساعة الزرقاء الدائرية الجديدة التي تحوي بوصلة. إحدي هدايا أبي القليلة. لم يستيقظ أحد بعد سواي، فأشعلت النور و ارتديت الساعة و جلست في سريري داساً نصفي الأسفل تحت البطانية، أقرأ عدداً من ميكي جيب. 
كان أفضل عدد قرأته.

في طفولتي كنت أعيش مع أبطال القصص. شخصيات ديزني كانوا هم "كل الحياة" بواقعها و خيالها، بغباء تصرفات بندق التي تغلغلت فيّ كما لم تفعل حكمة ميكي. رعونة بطوط التي كانت بوصلة حقيقية تقودني في تيه المدرسة و ظلام عقول الطلبة و المدرسين. 
الشياطين الـ13 كانوا معي، و حولي في كل مكان. أغسل يديّ سريعاً في الصباح قبل المدرسة لكي ألحق بهم في الشارع لانهم يبدأون يومهم مبكرين.  و اقوم للغداء لأن "أحمد من مصر" قال للمغامرين في "مغامرة في هامبورج" : هيا ننهض لنتغدي. 

"مغامرة في هامبورج" كانت مغامرتي المفضلة،  قرأتها أكثر من ستة مرات و حملتها معي في كل مكان. الآن حقيبة الجيش تحوي snow لأورهان باموق.. لا أعرف هل تغيرت كثيراً أم لا.  لا أعرف فعلاً. 

لا أريد شيئاً الآن من الله سوي أن يفتح لي نافذة أري منها الطفل الجالس بسعادة أسفل البطانية في مثل هذه الساعة يقرأ ميكي جيب، ينقل بصره بين الصفحة و بين الساعة الجديدة المنزلقة من معصمه الإيسر الصغير.
قد أتحرك لأحضنه، و قد لا أكون عاطفياً لهذه الدرجة فأكتفي بالنظر.  
و لكنني بالتأكيد بحاجه إليه الان to keep me company.
   

الاثنين، 17 أكتوبر 2011

(حسن)، قصة

حَسَـنْ
الملك اللاهي أعتاد السهر كل ليلة في القاعة الشمالية مشرعة النوافذ، تستقبل نسيم المساء. يداعب وصيفاته الحسان و يراقب رقصاتهن المبهجة، منصتاً بعشق خاص و بسرور طفولي كبير لأغنية "آه يا زين العابدين..." و التي ينشدها منصور العارف مطرب القصر مرة كل ساعة بادئاً بمطلعها الأول، و تاركاً الزمام بعد ذلك للوصيفات ليستكملن الغناء و الرقص حول مليكهن. يكّن الملك عشقاً خاصاً لهذه الأغنية بالذات لا لكونها تحمل اسمه فقط، و لكن لأنه حينما سمعها لأول مرة في مصر و سرّ بها هو و زوجته الملكة الراحلة، طلبت منه الزوجة نقلها و جعلها الأغنية الرسمية للقصر في الاحتفالات و المناسبات، و قد كان.

يمكن للوصيفات أن يرقصن كما شئن حول الملك، و يمكن لهن أن يجلسن بين ذراعيه، و جواره، و إلي صدره، إلا أننا لا يمكننا ألا نلاحظ شرود عيني الملك الغاربتين، و لمحة ذائبة من حزن دفين يرتبط بذكريات قديمة، و تجعلنا نتساءل عن الدلالة الحقيقة لما يجري بالقاعة الشمالية كل مساء.
هذا المساء مثلاً؛ كان شرود الملك بالغاً علي غير المعتاد، و بدا انه لا يشعر بما حوله، و انه يرحل بأفكاره بعيداً راشفاً الخمر كأساً بعد آخر بلا حساب. الوصيفات تبادلن النظرات و هن يرقصن و أضمرن محاولة استعادة مليكهن من رحلة شروده: لعبت الموسيقي اللحن و انطلقن ينشدن أغنيته المفضلة بأصواتهن العذبة، و يتعمدن التأود النائح في مقطعه المفضل: "يا ورد.. يا ورد مفتح بين البساتين.." إلا انه و لدهشتهن ازداد شروداً بأدائهن، بل و فاجئهن بنهوضه مرة واحدة ليسير خارج القاعة في ترنح خفيف غير ملحوظ. اضطربت الوصيفات و تحلقن يتهامسن، و توقفت الموسيقي، و انفضّ الحفل. لم تكد تمض ساعة علي عودة الوصيفات إلي مخدعهن المشترك، حتي جاءهن خادم يستدع عشتار الوصيفة الخاصة و المفضلة للملك، فهرعت تحسّن من زينتها لتلحق بأثر الخادم إلي مخدع الملك.

مثلت عشتار بين يدي الملك و هالها شحوبه و مدي غيابه في دوار الخمر، و كأنه قضي الساعة الماضية كلها في الشرب المتواصل. قال لها الملك مشيراً بيده: "تعالي يا مليكة". بهتت عشتار و هي تسمع اسم الملكة الراحلة، و لكنها لم تنطق بحرف مقتربة من الملك الذي احتواها بذراعيه ناظراً إليها من قرب شديد، قائلاً: "التجاوز فاق الأستجداء يا مليكة". لزمت عشتار الصمت الداهش تماماً، و سلمت نفسها لملكها الذي طرحها علي الفراش و نام فوقها و طفق يلجها.. بين حين و آخر يقول: "آآآه..مليكتي".. أو يهمس: "الأوغاد يا مليكة.. التجرؤ عليّ فاق الأحتمال". تجرأت عشتار و همست حذرة: "مولاي.. أنا عشتار وصيفتك، و لست مولاتي مليكة". ثار الملك بشدة و صفعها. هرولت خارجه تلملم ملابسها. جلس الملك يعبث بلحيته عنيفاً و هو يحمحم متوتراً، ثم نهض فجأة و غادر مخدعه، سائراً إلي مخدع الوصيفات، و اقتحمه بغتة لينتفضن جميعاً صارخات من الفزع. سار الملك سريعاً مقلباً بصرة بينهن، جاذباً واحدة منهن صغيرة السن، و خارجاً بها.
ولجها بقسوة في مخدعه الخاص. أنّت من تحته و تألمت، و لكنه لم يرحم سنها الصغيرة. سألها بعد ان فرغ منها: "من أنت؟!"
 فقالت بخنوع: "اسمي صفوة يا مولاي". تساءل حائراً: "كيف لم أرك من قبل؟ ابنه من أنت؟!". فأجابت: "ابنه فرعون البستاني يا مولاي". تفكر قائلاً: "فرعون البستاني.. و لكني لا أذكر أن فرعون قد جاء إليّ بابنه له.. ولا أذكر ان فرعون قد أنجب من الأساس". ثم أردف مودعها: "و لكنك فاتنة يا فتاة.. قولي لأباك: لقد وجدني الملك أفضل ما لديه، و أجمل ما عليه".
بعد عدة أشهر من تلك الواقعة تجلس صفوة مع فرعون البستاني العجوز في غرفة البستنة في حديقة القصر يتدبران أمر الجنين في بطنها. يري فرعون إخفاء أمره، و لكن صفوة تري الإبقاء عليه، و حجتها في ذلك اختلاط الأنساب بالقصر و تكرار حمل الوصيفات من الملك بصورة غير شرعية.

تمر الشهور و بطن صفوة يتكور و ينتفخ، و الملك بين القاعة الشمالية و مخدعه، يضاجع نساءه و تختلط عليه أسمائهن. بعد تسعة شهور بالضبط من جلسة غرفة البستنة تسلم صفوة الروح و هي تسلم حَسَنْ للدنيا في ذات الغرفة. سمّاه جده، و أوحت له الوصيفات بالاسم و هنّ يحملنه فيما بينهن فاغرات لحسنه و بهاء وجهه العجيب.

و شبّ حسنٌ حسناً، لا مثيل له بين الرجال. اعتبره فرسان القصر مخنثاً و لكنهم غاروا منه، و أسماه يعقوب قائد الحرس ب"الرجل الرقيق". و لما لم يكن بحسن قدرة ولا ميل لفروسية القصر علمه جده الزراعة و البستنة، و صار يساعده يومياً في أعمال الحديقة، و ارتاح حسن للتواجد الدائم بجوار الأشجار و التعامل مع الزهور.
و مبكراً تنافست وصيفات القصر علي دعوة و إغواء و التحرش بحسن هنا و هناك، حتي بلغ بأحداهن الكشف عن جسدها و الاستلقاء في سريره انتظاراً لعودته من الخارج ليجدها هكذا. و أحسن حسن معاملتهن بما يليق، فهو ربيبهن و حليفهن و يحسن إرضاءهن.
و كثر التهافت و ذاع الصيت حتي بلغ حُسن الإرضاء بهن حد ابتكار أغنية سرية خاصة. ففي عقب كل لقاء يعود حسن أدراجه مرتباً هندامه و مسوياً شعره و مُشيِعاً بابتسامته الوضّاء، بينما تسير الوصيفة الشريكة كالمُخدرة صاعدة شرفة القصر الأولي المطلة علي الحديقة، لتنشد بخدر و هيام: "حسن يا خولي الجنينة يا حسن.."
و ينتبه حراس القصر مشدوهين في أي ساعة من النهار و الليل للصوت، و حسن يرعي الحديقة باسماً، و الوصيفات تتكاثر علي الشرفة الأولي، و الملك يستفيق بين الحين و الآخر مستفهماً عن الصوت ثم يغيب.
و ذات ليلة فوجئ السامع بصوت رقيق يشدو من مكان عال: "يا عقلي يا روحي.." كانت مفاجئة، و لم يجرؤ أحد علي رفع بصره إلي الشرفة العلوية في ساعة مساء. و دارت أقاويل هامسة تربط الأميرة وحيدةٌ الملك بالغناء القادم من الشرفة العلوية و المتردد كل مساء، حتي بلغت الملك.

و جفل حسن مرات في زراعته إذ بصر الملك بذاته يقف ثابتاً محدقاً به من خلف شرفة قريبة أو شُرّاعة.

رحل فرعون العجوز دافئاً في فراشه بعدما اطمئن إلي سيطرة و براعة حسن مع زهور الحديقة. و تجمهرت المدينة في ساحة الجنازة تكرم جثمان الموظف الملكي. اقترب الملك من حسن مُعزياً، و بعد دقائق اختفيا سوياً عن الأنظار و لم يظهرا حتي اليوم التالي. قيل ان الملك-و المعلومات مصدرها الوصيفات اللاتي استنطقنها من فرسان الملك- قد حظي بكلمة قاسية مع حسن.
منذ ذلك اليوم و حسن يجول في الحديقة شرقاً و غرباً، يتصبب عرقاً من جهد العمل، و نظرات الوصيفات تتتبعه في تحسر، و الصوت المألوف الرقيق يأتي من الشرفة العلوية جريئاً لا يعبأ بالنهار: "يا خاين بحبك..".. الصوت يعلو يوماً بعد يوم، حتي سمعه كل من بالقصر و إن لم يجرؤ الفرسان علي رفع بصرهم، و ظلوا صامتين ينظرون للأرض، و يسلمون ورديات الحراسة. و قال الخادم الخاص ان الملك لا يعرف النوم إلا بضغط الوسادة علي رأسه و التقلب المتكرر.
تجرأت الوصيفات لاستمرارية الصوت و صمت الملك عنه، فصعدن ذات نهار للشرفة الأولي في تأبين: "يا فتنة يا زينة يا سلوي الحزينة".
لم يرق للفرسان ذكر اسم أميرتهم بهذا الوضوح، فتجمعوا في الحديقة ينصتون بمشاعر متضاربة. بينما الصوت العلوي لازال لوام النبرة: "يا عينك يا قلبك.."
و الوصيفات صرن أشد جرأة ووقاحة في الرد: "شوف إزاي بقينا.."
كانت مناظرة غنائية حامية عَجّت لها الحديقة بظلال الشهود. و اختفي حسن في مكان غير معلوم، تاركاً الأقوال تتناثر خلفه.     

تدور الحياة و تهدأ الوتيرة. تمر أيام عادية و يسمع البعض همساً خفيفاً في مساء موغل يشبه غناء الشرفة العلوية القديم لكنهم لا يلقون بالاً. وكل يومين تقرب وصيفة الشرفة تردد في حنين: "صبرنا و قاسينا.." فيلوّح فرسان الحراسة بأكفهم في ضجر، و حسن صار لا يقرب القصر.

يعقوب قَلِق. تحرشات "يموس" بقوافل "أسميريا" التجارية زادت، و"سايرون" يحشد جيشه. الخطر كبير. اجتماعات و مشاورات مع ركن الجيش تبقيه مشغولاً، و لكن يعقوب مأخوذ بذهول الملك عما حوله.
يري ركن الجيش ان يخرج رجال و شباب "أسميريا" لبناء سور كبير في مواجهة طريق التجارة، مدخل "أسميريا" الوحيد. و قال يعقوب أن اليموسيّون سوف يحطمونه بالمدافع، و يتسلقون أطلاله بالسلالم.
قال حسن ليعقوب علي سلالم القصر في المساء: "اليموسيّون قوم محاربون يُدربون أبنائهم علي القتال منذ نعومة أظافرهم، اما نحن فنَسّاجون مسالمون، لا باع لنا بالقتال ولا بالحروب.. لا ضير بالاستسلام و إعلان الإنابة.. نحقن الدماء و نحفظ النساء"
ورأي يعقوب ذلك تهاوناً لا يليق.
و الملك حائر شارد هش، يردد بين حين و آخر للفضاء: "سايرون" يريد قطعة مني.. يرديني كما أخذ مني مليكة"
وقف قائد سلاح في مجلس الحرب و قال: "إن الأسميريون يستطيعون حياكة أي شئ.. سننسجُ شبكاً دقيقاً عملاقاً نغرسه في الأرض في غير موضع، و نربطه خفياً بأطراف نخيل أسميريا، حتي إذا ما وطئه اليموسيون ضاق عليهم و حاق بهم، و صاروا فريسة سهلة لفرساننا"
و استحسنوا قوله.
لولا الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن.
اقتحم يعقوب مخدع الملك في قلب الليل و خلفه رجال الحرس الملكي الخاص، هاتفاً: "اليموسيّون دخلوا أسميريا! لقد خُدعنا!"
انتفض الملك من نومه: "ماذا حدث؟"
هتف به يعقوب وهو يُنهضه: "اليموسيّون في أسميريا يا مولاي.. دخلوا متخفين في قافلة تجارية عائدة، و لما صاروا بالداخل باغتوا حرس الطريق و فتحوا البوابات من الداخل! لقد وصلوا إلي القصر!"
التف فرسان الحرس الملكي حول الملك، و هرعوا به خارج المخدع يهرولون في أروقة القصر، و هو بينهم يتمتم بوهن: "سايرون.. معركتك الأخيرة معي"

سقطت المدينة و اشتعلت بالحرائق. و في أروقة القصر هرول حسن وسط الفوضي إلي حيث مخدع الأميرة سلوي، ليلتقي بها تخرج وسط حرسها الملكي الخاص الذين تحفزوا نحوه، فأشارت لهم الأميرة بالهدوء.
هرعوا جميعاً ركضاً للألتقاء بمجموعة الملك. تلفّت يعقوب حوله صارخاً: "اليموسيّون ينتصرون.. الجيش يسقط.. كانت خدعة! خدعة!". هتف فارس فرسان القصر و أصوات التحطيم و الأشتباك تصلهم: "المخبأ السري يا يعقوب!" فقال الملك: "تتشاورون و أنا الحكم.. سنقاتل و لن نختبأ"
أمسكه يعقوب من كتفيه و قال: "لاوقت يا مولاي.. لابد من الهرب.. دقائق و سيكونون هنا"
لم يبد علي الملك انه قد سمعه إذ قال: "ائتوني بسيفي"
و لم يبد علي يعقوب انه قد سمعه بدوره إذ قال: "هيا لننطلق"
و هرعت فرقة الحرس الملكي الخاص بكامل عتادها إلي المخبأ السري حاملاً ملك أسميريا و أميرتها قسراً. في ذيلهم يهرول حسن البستاني و بعض من الخدم و الوصيفات، وسط أصوات القتل و الصراخ، و أجيج النيران.
وصلت الفرقة إلي المخبأ فأقتحموه و تكدسّوا فيه.
قال الملك مُنكساً: "ضاعت أسميريا"
تقدم حسن و قال حازماً: "أعرف مهرباً"
قال الملك متوسلاً: "انقذ ابنتي"
التف حوله يعقوب و فارس فرسان القصر، و أدلي بدلوه: "هناك نفقاً سرياً في الحديقة الخلفية يقود إلي خارج أسميريا"
و هتف فارس من الفرسان: "اليموسيّون بالخارج!"
قال يعقوب في قلق: "الملك لن تسعفه صحته في الركض". لوح الملك بكفه رافضاً بكُره: "لن اهرب.. سأبقي"
و قال لحسن: "انقذ فقط ابنتي"
فقال بشمم: "ليّ شرط"
"لك ما تريد"
"تعترف بيّ!"
.. و صار حسن زين العابدين منذ اللحظة.
رفع يعقوب سيفه صائحاً: "يا فرسان أسميريا.. (أطلقوا صيحة واهوااا) استعدوا للموت من أجل أسميريا، استعدوا للموت فداء مليككم.. المجد لأسميريا.. المجد لفرسان أسميريا"
و تناول الملك سيفاً، و هو يقول: "تعال يا سايرون"
استعد الفرسان للموت، و يعقوب يدور بينهم يحمسّهم و يستحثهم.
أقتحم اليموسيّون المخبأ و استقبلهم فرسان الحرس الملكي بالنصال، و اقترعت السيوف بحده مرعبة في المساحة الضيقة. و التجأ الفرسان إلي استراتيجية دفع المهاجمين إلي أقصي نقطة خارجية لمنح الفرصة لهروب الأميرة.
قبض حسن علي كف الأميرة و ركضا سوياً عبر الحديقة متخفيين بالأشجار. يتفادون المعارك الملتهبة بين اليموسيين و بقايا حرس القصر الملكي. قالت الأميرة: "أصابني سهم" التفت حسن هلعاً: "أين؟!" فتهاوت مُشيرة: "في ساقي. انه مسمم" احتضنها و احتضرت بين يديه.

خرج حسن من النفق و سار لأيام. تهاوي في الصحراء، و التجأ لكهف، و أرتوي من بركة رائقة. حتي وصل بعد عدة أسابيع إلي قرية "عرامة" فقال للفرسان و هو يتهاوي من التعب: "احملوني لمليككم.. فأنا حسن زين العابدين ابن أخيه"
أفاق حسن مرتعشاً من كوابيس. تمدد حيناً حتي استدعوه، فمثل بين يديّ ملك القرية "الباسم" وقال واعمّاه. فتبسّم الباسم و قال: "بشارتك حاضرة"
و فسّر: "إنابتنا لروما، و ندفع ضرائبنا بأنتظام. توسطتّ لديهم و فديت أخي من الأسر بقناطير لا تُحصي"
و جاء الزين من المدخل، كهلاً كاهناً حزيناً كئيباً. قال: "لم تعد بي رغبة في أبناء جدد.. ستعود كما كنت"

و لم تضق "عرامة" بضيفيها الجديدين. الأول يقضي النهار في العناية بحديقة عم ليس له، يتلصص علي الشرفات الملكية الخاوية، و يدندن. و الثاني يتنقل في الليل بين القاعات الشمالية و مخادع النوم، يُخطئ أسماء الوصيفات و يلقبهن بـ"سلوي" و "مليكة".  


مجدي